منظمة الدول التركية .. تكتل آخر أم فرص اقتصادية جديدة؟

أُعلنَ مع انتشار التكتلات والمنظمات عهد جديد من التعاون بين الدول، ومن أشهر التكتلات الاقتصادية في عالم اليوم: الاتحاد الأوروبي، وتكتل أمريكا الشمالية (نافتا)، والآسيان، ومنظمة شنغهاي، واتحاد الدول الخليجية، وعديد من التكتلات المنتشرة في أرجاء العالم، وفي ظل زحمة التكتلات التي نشهدها يتساءل المرء عن فوائد الإعلان عن منظمة الدول التركية التي أزيح الستار عنها في القمة الثامنة للمجلس التركي في تركيا معلناً ولادة كتلة جديدة. التكتلات الاقتصادية ضرورة في عالم اليوم يستند التكتل عادة إلى مجموعة من المقومات الاقتصادية والثقافية والسياسية، وكلما كانت هذه المقومات أعمق وأكثر تشابكاً ارتفعت أهمية التكتل للدول الأعضاء، فجميع الدول تبحث عن مصالحها الخاصة من خلال التكتلات، وإن تعزيز شبكة المصالح بين الدول لا بد أن يقوم على أساس اقتصادي تقتنع من خلاله الدول الأعضاء أنها بحاجة إلى تقوية العلاقات السياسية والاجتماعية. وعادة ما يأخذ التكتل الاقتصادي عدة أشكال تتدرج من الأدنى إلى الأعلى في إطار ما يُعرف بسلم التكامل، وهذه الأشكال تبدأ من درجة التعاون وتنتهي بدرجة الاتحاد لتمرّ بأشكال أخرى كمنطقة حرة للتبادل التجاري، وقد يبحث التكتل في مسائل متقدمة في العلاقات التشابكية كالمشاريع الاقتصادية المشتركة التي تمرّ في أراضي الدول الأعضاء أو الاستثمارات الضخمة التي تتأسس برأسمال مشترك وكذلك العملة المشتركة وتوحيد السياسة النقدية، وتعود مزايا كل خطوة يخطوها التكتل على سلم التكامل الاقتصادي بالفائدة المشتركة على أعضاء هذا التكتل، وليس من الغريب أن نرى بعض التكتلات الجامدة التي لم تتقدم منذ يوم تأسيسها أو التي توقفت عند درجة معينة من التكامل مما قيّد أهداف التكتل وخفض سقف التوقعات منه. يتعلق نجاح التكتل الاقتصادي باختلاف الهياكل الاقتصادية للدول الأعضاء، اختلافاً يضمن التنوع ويساهم في دفع عجلة الاقتصاد المحلي نحو التكامل البيني وليس التنافس البيني، ففي حالة الدول المتشابهة في الهيكل الإنتاجي نجد أن مصلحة هذه الدول في التموضع التخصصي داخل التكتل يكلفها الكثير ويفرض عليها اتباع سياسات تحولية تشمل تدريب العمال وبناء بِنىً تحتية مناسبة للتحول وتبنِّي سياسة اقتصادية مختلفة. ولكن في حالة التنوع في الهياكل فإن الدول تستطيع أن تجتمع في ما بينها لتكمل صورة التكتل كلٌّ حسب تموضعها التخصصي داخل التكتل. الدول التركية لديها تنوُّع اقتصادي وفي حالة الدول التركية نجد أن الهياكل الاقتصادية متنوعة بشكل معقول لبدء مشروع تكتلي يمكن البناء عليه، فأذربيجان وكازاخستان وأوزبكستان وكذلك تركمانستان لديها ثروات نفط وغاز ومعادن بشكل جيد يجعلها مصدراً للطاقة داخل التكتل وفي عموم المنطق. بينما نجد أن قرغيزستان وكذلك أوزبكستان تمتلكان قدرات زراعية أكبر تتضمن محاصيل استراتيجية كالقطن والحبوب، كما تمتلك تركمانستان قدرات صناعية أولية تؤهلها لإضافة قيمة مضافة للسلع داخل التكتل، فيما تمتلك تركيا والمجر -العضو المراقب حاليّاً- قدرات صناعية وسياحية واسعة يمكن أن تقدّم قيماً أكبر لمجمل السلع المنتجة في هذه الدول بحيث يتم تعظيم القيمة للسلع المنتجة وبيعها بسعر منافس وجودة عالية. وتستطيع الدول داخل التكتل أن تستفيد من الصناعات التركية بأسعار رخيصة لكون الاجتماع السابع لرؤساء الإدارات الجمركية الذي عقد في أستانة عام 2019 نص على تبسيط الإجراءات الجمركية وتوحيدها، ويتوقع أن تتخذ مجموعة العمل المشكلة لهذا الغرض قراراً حول إلغاء الرسوم الجمركية سرعان ما يتحول إلى واقع يضمن تدفق السلع بسلاسة أكبر بين هذه الدول. بصيغة أبسط نستطيع أن نقول إن عوامل الإنتاج الاقتصادي تتكون من موارد طبيعية وعمال ورأسمال وتقنيات وإدارة جيدة، ونحن اليوم أمام تكتل اقتصادي من 170 مليون نسمة نصفهم خارج تركيا والنصف الآخر داخلها، ومعظم العمال داخل هذه القوى البشرية يتميزون بأجور منخفضة للغاية تساهم في تخفيض تكلفة المنتج، فعلى سبيل المثال لا يزيد متوسط الأجور على 200 دولار للعاملين في أوزبكستان وقرابة 350 دولاراً للعاملين في تركيا، وهما الدولتان الكبريان من حيث عدد السكان وبالتالي العمالة. كما تمتلك هذه الدول ثروات باطنية يمكن أن نصفها بأنها جيدة، وتتوافر في هذه الدول رؤوس أموال كبيرة عن طريق رجال الأعمال والمؤسسات الحكومية أو الخاصة، فعلى سبيل المثال تُقدَّر قيمة الأصول في البنك الأوزبكي الوطني للنشاط الاقتصادي الخارجي بقرابة 65 مليار دولار أمريكي، وهو مبلغ يزيد على أصول بنك الوقف التركي العملاق ويكاد يقترب من أصول بنك الشعب التركي الذي يمتلك نحو 85 مليار دولار من الأصول، فيما يتملك بنك زراعات الحكومي التركي أصولاً تفوق 100 مليار دولار، إلى جانب هذه الموارد هناك جوار لدول كبرى أبرزها الصين وروسيا، ويطلّ التكتل برأسه نحو أوروبا من خلال تركيا والمجر، مما يعني الاستفادة من أسواق عملاقة لجهة الموادّ الأولية ولجهة التصريف. أمام هذا الاستعراض نقف أمام تكتُّل اقتصادي آخر يشابه كثيراً من التكتلات الجيدة في دول العالم، ولكن ما يميز التكتل الجديد هو أربعة أحداث رئيسية حصلت بعد عام 2019 في مسار التكتل الجديد، وهذه الأحداث الأربعة هي: الحدث الأول هو انضمام أوزباكستان إلى التكتل من خلال المؤتمر السابع للمجلس، الذي عُقد في أذربيجان، والإعلان عن قبول تركمانستان عضواً مراقباً في المؤتمر الثامن في تركيا، وكل من البلدين يمتلك ثروة من النفط والغاز لا تقلّ أهمية عمَّا ينتجه بعض دول الخليج العربي. الحدث الثاني هو الدعم الذي قدمته تركيا لأذربيجان في حربها ضد أرمينيا مما أهَّلها لتحقيق مكاسب مرتفعة، وسلّط الضوء بالتالي على أهمية التعاون البيني لدول المجلس في المجال الأمني والعسكري. الحدث الثالث هو أزمة كورونا وما نتج عنها من انفصال للدول الإقليمية عن النطاق الدولي، إذ فضّلَت الدول الكبرى الانشغال بأزمتها مما عزَّز الدور الإقليمي ورفع أسهم التحالفات الإقليمية بخاصة عبر الدبلوماسية الطبية التي لعبتها تركيا. الحدث الرابع هو أزمة الطاقة العالمية التي سلّطَت الضوء على أهمية الدول المنتجة للغاز والنفط وأهمية عمليات التصريف والنقل سواء من خلال التجهيزات أو من خلال الجغرافيا، وهذا ما يجعل الأضواء مسلَّطة على دول التكتل كونها تمتلك الموارد في مجال الإنتاج والنفط. كل هذا يفسر القرار الذي دفع الدول إلى الإعلان عن مرحلة جديدة من مراحل التكتل، وهي مرحلة تحويل المجلس إلى حالة أكثر تنظيماً من خلال المنظمة المعلن عنها مؤخراً إلى جانب الرؤية الاستراتيجية، فكل هذا يرفع أهمية التكتل ويجعل الدول الأعضاء تؤمن بزيادة التعاون وتطويره في إطار المنظمة الوليدة مما يؤهل هذه الدول للتقدم على سلّم التكامل الاقتصادي ويرتقي إلى مستويات أخرى أعلى، ويُتوقع أن تتسارع الخطوات بشكل أكبر من أي وقت سابق للتقدم بالتعاون من خلال مشاريع مشتركة وقوانين ولجان عمل تقنية تُفضي إلى الارتفاع بمستوى العمل إلى مرحلة غير مسبوقة.